في سقطة لن تمحى من التاريخ ولن تنساها الأجيال وسيكون وزرها عند الله أعظم لو ينبني عليها عمل، فيأتي من حكام المغرب من يستعمل هذه الفتوى التي أطلقها “رئيس اتحاد العلماء المسلمين” على الهواء ليجر المغاربة إلى تخطي الحدود مع الجزائر ليحتلوا جزءً من أرضها فتسيل الدماء من الطرفين، وتدخل المنطقة في حـ.رب مدمرة لا تنتهي.
لم يُظهِر الريسوني بسالةً في مواجهة انحرافات حكامه المتعددة والمتكررة كهذه الشجاعة الكبيرة التي أبان عليها في عدوانه على الجزائر، ولا أراه سوى رجل أرهبه الخوف من مولاه بسبب إعلان رفضه المحتشم لتطبيع علاقة بلاده مع الكـ.يان ص المحتل فأراد تقديم عربون الولاء على حساب دماء الأشقاء المسلمين الجزائريين والمغاربة. لا شك أن هذا “الناطق باسم العلم والعلماء!” لم يكن واعيا أو غير مبال بالأبعاد السياسية والاجتماعية لسقطته المدوية هذه.
لا شك أن لعبة التوازن – التي لا يحسنها – على خيوط السياسة الرقيقة التي لعبها أودت مصداقيته، تماما مثلما يحدث لكثير من المشايخ حينما تغلبهم إكراهات السياسة فلا يحسنون السكوك .. وحاشا مشايخ آخرين سادة في السياسة وسادة في الشريعة.
لا يخفى على أحد موقف الريسوني من قضية الصحراء الغربية، وذلك رأيه، ولا أحد يلومه عليه، والآراء في الموضوع متعددة بأبعادها التاريخية والسياسية والقانونية والدولية والواقعية، والنقاش والحوار يسع كل الآراء، والحجة غلّابة، ما لم تنحرف المواقف إلى الإضرار بالغير أو إلى العمالة أو العدوان أو فتنة المسلمين. وما قاله الريسوني هو العدوان ذاته، وهي شرارة أُطلقت في زمن يعج بالفتنة، دوليا وأقليميا، في أرض سكنها أشرس عدو للأمة، فباتت كالبرميل الذي لا ينتظر إلا الصاعق الذي يُلهب النار. فهل رشّح الريسوني نفسه ليكون ذلك الصاعق أو صاعقا من تلك الصواعق؟
لقد صدق رسول الله صلى عليه وسلم حين قال في الحديث المتفق عليه:
((إنَّ الْعَبْد لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ مَا يَتَبيَّنُ فيهَا يَزِلُّ بهَا إِلَى النَّارِ أبْعَدَ مِمَّا بيْنَ المشْرِقِ والمغْرِبِ)). وهل الحروب إلا طلقات لسان قبل طلقات الرصاص.
وما دام قد دعا هذا العالم الشرعي إلى الحرب بين الأشقاء كان الأولى له أن يدعو إلى حرب ضد العدو ص الغاصب الذي حط رحاله في بلاده، كان الأولى له أن يدعو إلى مسيرات خضراء أوحمراء أوصفراء أو بيضاء أو سوداء .. بأي لون شاء .. يقودها بنفسه في مختلف ساحات المغرب، لا تنخفض راياتها حتى يتراجع أميره ومولاه وسيده عن سياسات التطبيع المدمرة للمغرب وللجزائر ولموريتانيا ولفلسطين ولكل المنطقة ولكل العالم العربي والإسلامي.
ويا ليته دعا كذلك إلى “الجهاد بالنفس والمال” – كما قال بشأن تندوف الجزائرية – ليتجه ملايين المغاربة إلى تحرير سبتة ومليلية المغربيتين اللتين لا زالتا تحت الاحتلال الإسباني. تلك هي مسيرات الشرف! أما المسيرات لغزو الجزائر واقتلاع أرض تندوف من جغرافيتها فما هي إلا فتنة عمياء وضع نفسه على رأسها والعياذ بالله.
أما من حيث التحقيق العلمي حول “الامبراطورية المغربية العظمى” التي يريد بناءها بأوهام الفتنة فلست أدري من أي مرحلة من مراحل التاريخ يريد أن يبدأ؟ وما هي الدولة من الدول التي تعاقبت على المنطقة التي يؤقت على زمنها حدود الزمن الراهن؟ وأية جغرافية من الجغرافية المتحركة بين دول المنطقة عبر القرون الغابرة يريد تثبيتها؟
هل هي الدولة الحمادية (1014-1152) “الجزائرية” التي وصلت في أقصى اتجاهها غربا إلى مدينة فاس، وأبعد من فاس، فنقول فاس جزائرية، أم نحسب كذلك أنّ وجدة وتاوريرت وفجيج جزائرية لأنها كانت تابعة للجزائر في أحد أزمة الدولة الزيانية “الجزائرية” (1235-1554)، أم هو زمن الدولة الجزائرية في زمن الإيالة (1515-1832) حينما صار وادي ملوية هو الحاجز الطبيعي الذي اعترفت الدولة السعدية (المغرب حاليا) بأنه هو الحدود الجغرافية بين البلدين فنقول بأن كل المدن المغربية الموجودة شرق وادي ملوية جزائرية حاليا.
إن الدماء الجزائرية التي سالت في الغرب الجزائري في مواجهة الإسبان من جهة والدولة السعدية (المغرب حاليا) من جهة أخرى كثيرة، إذ لم يتوان حكام الجزائر في العهد العثماني من إرسال الجيوش تلو الجيوش للمحافظة على حدود الدولة غربا إلى غاية وادي ملوية، وقد أثمرت تلك العزائم فثبّتت الحدود وكانت مدن كوجدة وغرسيف وفجيج يدفع أهلها الضرائب لحكام الإيالة الجزائرية.
والغريب في ماقاله الريسوني في قضية الحدود أنه يؤمن بخريطة علال الفاسي التي تتسع ليس إلى بشار وتندوف فقط، بل إلى أدرار والأغواط وعين صالح، مما يجعلنا نفهم قول من يقول من الجزائريين بأن سكوتنا على أطماع المغرب في الصحراء الغربية سيجعل حكام هذا البلد وبعض نخبه (ومنهم الريسوني) يطمعون في التوسع داخل الغرب الجزائري، وأي حالة ضعف تصيب بلادنا لا قدر الله سيأتينا وقتها البلاء من جيراننا على غرب بلادنا بالمغرب.
لست أدري كيف يقول الريسوني هذا الكلام وهو يعرف أن توسع الدولة العلوية في جنوب الغرب الجزائري كان عدوانا على الجزائر في منتصف القرن السابع عشر في زمن محمد بن الشريف السجلماسي العلوي حين كانت الجزائر تمر بحالة ضعف، ولم يقبل باشا الجزائر آنذاك هذا العدوان فأرسل له السفراء والرسائل ومما جاء فيها: “لقد خرقت على الإيالة العثمانية جلباب صورها الجدير من وجدة الأبلق إلى حدود الجريد” ” نحن جئناك لتعمل معنا شريعة جدك وتقف عند حدك، فما كان جدك يحارب المسلمين، ولا يأمر بنهب المستضعفين ولا بالغارة على الضعفاء والمساكين”، وقد اعترف الشريف بسوء عمله ووعد عن الكف ولكنه لم يف .. وانتقم الله من هذا الرجل الظلوم الشديد فقتله أخوه الرشيد في قتال بينهم.
إننا والله لا نقول هذا الكلام لنستعمل التاريخ فنطالب للجزائر من المغرب ما هو كائن من الأراضي في هذا البلد الشقيق شرق وادي ملوية، فنكون مثل الريسوني نستعمل الخرائط المتحركة عبر الزمن الغابر لإشعال نار الفتنة في الزمن الحالي. ولكن والله إني لأرى هذا الريسوني قد بات أميرا من أمراء الحروب القذرة المعطِّلة لنهضة الأمة باستدعاء مَلكه إليها بقوله: “المغرب مستعد إذا دعا جلالة الملك للجهاد بالنفس والمال .. إذا دعا بأي شكل، بالمال، لمسيرة إإلى تندوف، العلماء والدعاة مستعدون للمسيرة إلى تندوف، ليس إلى الصحراء فقط بل إلى تندوف”.
والله إني لأراه واحدا من أولئك المغامرين العلويين في زمن محمد بن الشريف الذين أغاروا على ضعفاء القبائل الفقيرة المتناثرة في الحدود الغربية الجنوبية الجزائرية، فكانت الحصيلة إراقة دماء لا حد لها من الشعبين المسلمين، ثم كانت النتيجة في آخر المطاف أن الأرض رجعت لأصحابها بفضل الله تعالى العادل الحق وبفضل دماء الشهداء الأبرار.
والغريب في الأمر كذلك أنه يتحدث عن الحدود الموروثة عن الاستعمار، وسلطانه عبد الحفيظ العلوي هو الذي أمضى معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب بالحدود الحالية. وهذا الاستعمار ذاته – الذي حرص على الأرث الحقيقي للحدود الجغرافية للإيالة الجزائرية – هو الذي حاول غدر الجزائر في حدودها المعلومة تاريخيا وجغرافيا بالتنازل قبيل الاستقلال للرجل الشريف حقا “السلطان محمد الخامس” مقابل التوقف عن دعم الثورة الجزائرية فلم يجد عنده مبتغاه.
والغريب في الأمر كذلك أن الريسوني يجهل أن الدول التي اتفقت على احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار هي الدول التي اجتمعت في مؤتمر باندونغ عام 1955 لمناهضة الاستعمار، وهي كذلك الدول الافريقية التي حاربت شعوبها الاحتلال حين دعت في أول اجتماع لمنظمة الوحدة الافريقية عام 1963 إلى احترام الحدود التي أُخِذت من الاستعمار لتجنب استدامة النزاعات الحدودية.
وأغرب ما في الأمر في كل ما قاله الريسوني هو استدراكه بعد عدوانه اللفظي على موريتانيا الشقيقة حيث صرح أنه ما دام المغرب قد اعترف بحدود موريتانيا فنترك الأمر للتاريخ، وجهل أو تجاهل أنه تم ترسيم الحدود الجزائرية المغربية بشكل نهائي كذلك بموجب اتفاقية ثنائية وقّع عليها الجانبان بتاريخ 15 جوان 1972 وتم التصديق عليها من مجلس النواب المغربي وتم تبادل وثائق التصديق بين وزيري خارحية البلدين يوم 14 ماي 1989.
وفي الأخير : إذا كان ثمة حقيقة واحدة تغنينا عن كل الاعتبارات القانونية والتاريخية التي أشرت إليها – والتي كان ينبغي أن يقف أمامها الريسوني بإجلال واحترام فلا تحدثه نفسه الأمارة بالسوء بما تلفظ به من كلام مشين منشئ للفتنة والعداوة – هي تلك الدماء الغزيرة التي قدمها الجزائريون في المقاومة الشعبية والثورة التحريرية النوفمبرية وكل أنواع التضحيات في كل شبر من بلادهم من أجل نيل استقلالها وافتكاك أرضهم كاملة كما هي اليوم من الاستعمار الفرنسي، وضمن هذه الأراضي أراضي الجنوب العزيز الذي استمرت الثورة التحريرية سنتين أخريين من أجله بعد عام 1960 حينما هُزم ديغول فحاول الخروج من الجزائر دون الصحراء.
على علماء الأمة أن ينكروا استدعاء الحرب بين دولتين مسلمتين شقيقتين الذي تورط فيه الريسوني، وعليه أن يستقيل من رئاسة الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين أو أن يقيلوه!