
كان الهواء في قاعة المحكمة ثقيلًا، مشبعًا برائحة العرق والورق القديم. في الزاوية، كان هناك مصباح زيت قديم، يتراقص لهبه بصعوبة تحت أنفاس الحاضرين المتوترة. نظر سعيد إلى السقف العالي، حيث كانت العناكب قد نسجت خيوطها بين الزوايا العتيقة، وكأنها تنتظر لحظة سقوطه.
تردد صوت القاضي في القاعة، ليس فقط ككلمات، بل كحكم قادم من عالم آخر، عالم لا يدركه سوى أولئك الذين اعتادوا النظر إلى البشر من علو، دون أن يلمسوا آلامهم حقًا.
“سعيد مهران، أنت متهم بالقتل والسرقة، كيف تدافع عن نفسك؟”
أحس سعيد، للحظة، بأن السؤال لم يكن موجهًا إليه وحده، بل كان موجهًا إلى كل أولئك الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة العالم بلا سلاح سوى أوهامهم القديمة. نظر إلى القاعة، إلى الوجوه المرهقة، إلى العيون التي لم يكن فيها سوى الترقب البارد. لمح نبوية، متشبثة بطرف وشاحها، وجانبها عليش سدرة، الذي بدا مرتاحًا كما لو كان في حفلة مسائية هادئة.
حاول أن يبلع ريقه، لكن حلقه كان كصحراء جافة. ورغم ذلك، رفع رأسه قليلًا، لم يكن لديه ما يخسره. كان صوته، حين نطق، يشبه صوت الريح حين تمر بين أغصان شجرة وحيدة في سهوب روسيا الشاسعة:
“أنا الضحية… لست المجرم.”
كان الصمت في القاعة كثيفًا، مثل الضباب الذي يلف السهوب قبل الفجر. وحدها أنفاس متقطعة، ونبضات قلوب متوترة، كانت تملأ الفراغ بين الجدران العالية المغطاة بطبقة من الغبار العتيق. عند المنصة، جلس القاضي، رجل متجعد الوجه، عيناه باهتتان كضوء شاحب في يوم غائم، وجبهته العريضة تنضح بصرامة الزمن والقانون.
رفع المطرقة ببطء، وكأنها تحمل معها ثقل قرون من الأحكام والقدر. حين هوت على الطاولة، لم يكن الصوت قويًا، لكنه اخترق الفراغ في القاعة كضربة القدر نفسه. ارتفعت الرؤوس في القاعة، وتشنجت ملامح سعيد، بينما جاء صوت القاضي، باردًا، كأنه لم يصدر عن إنسان، بل عن آلة بيروقراطية ضخمة لا تعبأ بالمصائر الفردية.
“نبدأ باستدعاء الشهود.”
تحركت امرأة ببطء من المقاعد الأمامية، ثوبها الداكن انسدل على الأرض كظل ممتد، خطواتها لم تكن خائفة، بل كانت تشبه مشية شخص على حافة هاوية، حيث لا يوجد سوى فراغ ينتظر الخطوة التالية. جلست حيث أشار القاضي، وضعت يديها على حجرها، وعدّلت طرف طرحتها بحركة هادئة لكنها محسوبة، ثم رفعت بصرها إلى سعيد.
كان وجهها بلا تعبير، مثل لوح رخام قديم، لكن في أعماق عينيها كان هناك شيء… نظرة لم يكن يستطيع فك شيفرتها. هل كانت كراهية؟ أم ازدراء؟ أم مجرد إرهاق عمر امتد أكثر مما ينبغي؟
“السيدة نبوية، هل تؤكدين أن المتهم كان زوجك؟”
أجاب صوتها بنبرة هادئة، لكن فيها شيئًا يشبه حدَّ السكين التي تمر فوق سطح أملس، تُحدث قطعًا عميقًا دون أن تثير ضجة: “نعم، لكنه لم يكن زوجًا صالحًا.”
كان هناك صمت، ليس صمت انتظار، بل صمت يشبه الفراغ الذي يخلفه انفجار بعيد، حيث لا يزال الهواء يحاول استيعاب غياب الصوت. شعر سعيد برجفة غير مرئية تسري في أطرافه، شيء ما في داخله انكمش، كأن بردًا غريبًا اخترق صدره للحظة، رغم العرق الذي التصق بجبهته. قبض على أصابعه حتى ابيضت مفاصله، لكن قبضته لم تكن سوى مقاومة عبثية، كقبضة رجل يحاول الإمساك بالرمل.
“ماذا تعنين؟”
رفعت حاجبها بالكاد، كأنها لم تتوقع أن يُطلب منها تفسير ما تراه واضحًا تمامًا، ثم قالت بصوت لا يخلو من لمحة حنين زائل:
“كان قاسيًا، متهورًا، يعيش كما لو كان في زمن آخر. أراد أن يكون بطلًا، لكنه لم يكن سوى لص.”
اهتزت السلاسل حول معصميه حين حاول أن يتحرك، صوتها كان أشبه بانفجار طفيف في الصمت الثقيل.
انحنى إلى الأمام، كأن قيدًا خفيًا كان يسحبه إلى الهاوية:
“أنتِ من خنتني، نبوية! أنتِ من سرقتِ ابنتي! من بعتيها لعليش سدرة!”
لم تلتفت إليه. كان صوته بالنسبة لها مجرد صدى بعيد، ضوضاء تأتي من عالم لم يعد يعنيها. نظرت إلى القاضي مباشرة، بعيون امرأة اتخذت قرارها منذ زمن:
“أنا لم أفعل شيئًا سوى تأمين حياة أفضل لابنتي… ولنفسـي.”
في تلك اللحظة، أدرك سعيد أن القاعة بأكملها كانت تتنفس ضده. لم تكن الجدران من حجر، بل من أعين تتأمله، تراقب ضعفه وهو مكبل، تتلذذ بسقوطه كما يتلذذ المشاهدون بمأساة مسرحية يعرفون نهايتها سلفًا. مرر لسانه على شفتيه الجافتين، لم يكن هناك ما يُقال بعد.
ضرب القاضي بمطرقته ثانية، وكأن كلماته لم تكن سوى جزء من إيقاع قديم لا بد أن يستمر: “استدعوا الشاهد الثاني.”
تحرك رجل ممتلئ الجسد، ثيابه ناصعة البياض كثلج حديث السقوط، لكن خطواته كانت تنضح بثقة شخص لم يعد يخشى شيئًا. رائحة عطر خفيفة تسللت إلى أنف سعيد، وأعادته إلى ذكريات لم تكن بعيدة، ليالٍ كان فيها هذا الرجل مجرد تابع له، ظلًا باهتًا يسير خلفه. لكنه الآن، جلس في المقعد المقابل، ووضع يده على ركبته بثبات، ثم ألقى نظرة خاطفة على سعيد، نظرة لم تكن حاقدة، ولم تكن مشفقة، بل كانت نظرة انتصار بارد.
“السيد عليش سدرة، ماذا لديك لتقوله عن المتهم؟”
ابتسم عليش، لم تكن ابتسامة ودودة، لكنها لم تكن ساخرة أيضًا. كانت مجرد ابتسامة شخص اعتاد أن يكون في صف الفائزين، حيث لا مكان للعواطف غير الضرورية.
“كان سعيد رجلًا عنيفًا. لم يكن يعرف كيف يعيش في هذا الزمن الجديد.”
أراد سعيد أن يضحك، لكن ضحكته لم تجد طريقها إلى الخارج، تحولت إلى نشيج داخلي، إلى طعنة غير مرئية في صدره. انحنى للأمام، كأن قيوده لم تكن موجودة: “أيها الخائن، سرقتَ كل شيء مني!”
أمال عليش رأسه قليلًا، كأنه يفكر للحظة، ثم قال بنبرة كمن يشرح أمرًا يعرفه الجميع: “لم أسرق منك شيئًا. أنت من ضيعت حياتك. كنت دائمًا تهدد الجميع. والآن، أنت تحصد ما زرعت.”
الدماء احتشدت في رأس سعيد، شعر بدقات قلبه تصخب في أذنيه. نظر إلى القاضي، لكنه لم يجد على وجهه أي رد فعل. كان القاضي أشبه بمسلة حجرية، لا تهتز ولا تتأثر.
“استدعوا الشاهد الثالث.”
تحرك رجل آخر من الخلف. هذه المرة، لم يشعر سعيد بالغضب، بل بشيء آخر… شيء أعمق، وأشد مرارة.
كان رؤوف علوان يسير ببطء، ليس بتردد، ولا ببهجة، بل وكأنه يعرف أنه يملك كل الوقت في العالم. جلس بتأنٍّ، أسند يده إلى ذراع الكرسي، ووضع ساقًا فوق الأخرى، قبل أن ينظر إلى سعيد بنظرة محايدة، نظرة شخص رأى كل شيء من قبل، وعرف كيف ينتهي الأمر دائمًا.
“السيد رؤوف علوان، أخبرنا عن علاقتك بالمتهم.”
مرر رؤوف عينيه في القاعة قبل أن يتحدث، كأنه يلقي نظرة أخيرة على مسرح يعرفه جيدًا، ثم قال بصوت رخيم، فيه أثر من دفء قديم: “كنت أستاذه. وكنت أحبه كأخ صغير. أردت له الخير. لكنه اختار طريقًا آخر.”
ارتعشت شفتا سعيد، لكنه لم يعرف لماذا لم يصرخ، لماذا لم يرمِ الاتهامات كما فعل مع الآخرين. همس فقط، كأنه يحدث نفسه: “كنت قدوتي.”
أومأ رؤوف برأسه ببطء، وكأن الأمر كان اعترافًا سهلًا: “كنتُ قدوته، نعم. لكنه لم يفهم أن الأبطال لا يعيشون طويلاً في هذا العالم. لم يفهم أن المبادئ وحدها لا تكفي.”
رفع سعيد عينيه إليه، شعر بأن أنفاسه ثقيلة، وأن كل شيء كان على وشك الانهيار: “بل أنت من خنت مبادئك.”
هنا، ابتسم رؤوف، لكنها لم تكن ابتسامة ازدراء أو سخرية، كانت مجرد ابتسامة هادئة، كأنما يعترف بحقيقة يعرفها منذ زمن: “ربما. لكنني على الأقل، ما زلت حيًا.”
ساد الصمت. لم يكن سعيد يعرف إن كانت تلك هي النهاية أم لا، لكنه شعر بشيء داخله يتلاشى، كما تتلاشى آخر أضواء الشفق قبل أن يغرق السهل الروسي الطويل في ظلام الليل الأبدي.
وقف سعيد مهران وسط قاعة المحكمة، غير متأكد مما إذا كان لا يزال حيًا، أم أن روحه قد غادرت جسده منذ زمن. كان المشهد أمامه ضبابيًا، كما لو أنه يراه عبر زجاج مغطى بطبقة من الجليد الذائب. القاضي يتحدث، المحامي يتمتم بشيء لم يعد يهمه، الجمهور يتحرك ببطء كأنهم أشباح في ضوء غروب باهت. لم يكن يرى إلا رجلاً واحدًا بوضوح، كما لو كان الزمن قد تركه وحده دون تشويه رؤوف علوان.
كان جالسًا في مقدمة الصفوف، ملامحه ثابتة، بلا انفعال، بلا حزن، بلا غضب. ذلك الوجه الذي كان يومًا يحمل شعلة الحماسة، صار الآن قناعًا باردًا، وجه رجل تعلم كيف ينجو، كيف يبقى واقفًا فيما يسقط الآخرون.
أغمض سعيد عينيه للحظة، محاولًا أن يسترجع كيف وصل إلى هنا. متى انقلب كل شيء؟ أكان يوم خرج من السجن محملًا بأوهام العدالة؟ أم قبل ذلك، حين صدق أن الشرف والولاء قيم لا تموت؟ تذكر نبوية، بوجهها الذي فقد ملامحه، وعليش سدرة، بعينيه الممتلئتين بخيانة مطمئنة، حتى نور— حتى تلك المرأة التي كانت كنجمة هاربة في ليله الطويل— لم تكن هنا.
أحس بأن الجدران تتحرك، تضيق، تقترب، الهواء يزداد ثقلًا، كأن المكان كله يضغط على صدره. حين هوت مطرقة القاضي على الطاولة، لم يكن ذلك مجرد صوت، بل كأنه سيف يسقط على روحه.
سمع القاضي ينطق بالحكم. لم يكن للكلمات أي معنى. لم تعد تهمه. بل فجأة، لم تعد المحكمة موجودة…
كان واقفًا في زقاق ضيق، المطر ينهمر في برك داكنة على الأرض الترابية، تسيل قطراته الباردة على جبينه، على يديه، وكأنها تطهره من شيء لم يعرف كنهه. كان الليل ساكنًا، إلا من أصوات بعيدة— صفارات الشرطة، خطوات تركض في الظلام، همسات الريح وهي تمزق الصمت.
مد يده إلى جانبه، بحثًا عن المسدس، لكن أصابعه لم تجد إلا خواءً. “الخيانة في كل مكان…”
لم يكن متأكدًا إن كان قد همس بها، أم أنها مجرد صرخة عالقة في أعماقه، لم تخرج يومًا إلى العالم. رأى أضواءً تتراقص، رأى ظلًّا طويلًا يتحرك نحوه، رأى صورة رؤوف علوان ترتسم في عقله، يبتسم تلك الابتسامة الرقيقة التي لم تكن أبدًا إلا قناعًا.
لم يكن هناك مفر. لم يكن هناك خلاص.
ثم… حلّ ظلام عميق.
شهق سعيد وهو يفتح عينيه. غرفته الصغيرة كانت تغرق في العتمة، جسده مبلل بالعرق، أنفاسه ثقيلة كأنه نهض من تحت أنقاض حلم ثقيل.
رفع رأسه، حدّق في السقف، ثم استدار نحو النافذة. كان الظلام في الخارج كثيفًا، لكنه لم يكن هادئًا. كانت هناك أصوات… أصوات يعرفها.
طلقات رصاص.
ببطء، نهض من فراشه. تحرك كما لو كان روحًا منفصلة عن جسده، كأن شيئًا آخر هو الذي يقوده نحو النافذة. نظر إلى الجنود المنتشرين في الشارع، إلى الأضواء المرتعشة على الجدران، إلى العالم الذي لم يكن يومًا ملكه.
ابتسم سعيد، ابتسامة باهتة، ابتسامة رجل رأى المستقبل لكنه لم يتمكن من تغييره، وهمس لنفسه:
“لقد رأيت هذا المشهد من قبل…”
ثم…
انفجرت الطلقات في صدره.
الموت لا يأتي سريعًا…
لم يسقط على الفور. للحظة، ظل واقفًا هناك، مذهولًا، وكأنه لم يصدق أن هذا هو المشهد الأخير. شعر بحرارة الدم، بحرارته وهو يغادر جسده، بحرارته وهو يبلل قميصه، بالألم الذي لم يكن في الحقيقة سوى ارتعاشة باردة في صدره.
لم يكن هناك قاعة محكمة. لم يكن هناك قاضٍ، لم يكن هناك شهود.
لم يكن هناك شيء سوى هذه اللحظة، سوى هذا الفراغ.
سوى النهاية، التي لم يكن منها مهرب.
إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.