- الكنز المفقود: قصة قصيرة
- إبراهيم أمين مؤمن/مصر
- أحداث القصة من قديم الزمان.
وفور خروجهما من الكهف نهض الجوادان من بسطيهما، ورفعا ذيليهما، واتسعت فتحتا أنفيهما، عندئذ تبسم كهف وكهيفة ضاحكين لهما ولاسيما أنهما سمنا عما كان عليه من ذي قبل.
فقال كهف عندئذ: «تُرى، هل يسمّن العشب الذي أكلتماه، أم أنه طول البسط بالوصيد (الوَصِيد:ُ الفناء أمام الكهف)؟»
فصهلا له فحسب.
هز رأسه، ثم ما لبث أن التفت إلى كهيفة وقال: «يا كهيفة، حالما يجف حبر الريشة نطوي الرسالة ونمتطي الجوّادين، ونسرع ب.. »
قاطعه الأدهم (اسم حصان كهف) بصهيل عال، وكذلك صهلت الكحيلة (اسم فرس كهيفة)، ثم أسرعا بأخذ راية معلقة على باب الكهف مرسوم عليها قاعة محكمة تحاكم الضمائر وناولاها لهما.
قال كهف عندئذ: «ما أحفظكما للأمانة أيها الوفيان!»
فرفعا ذيلهما بتؤدة مع صهيل خفيف.
قال كهف مستدركا كلامه لكهيفة: «ونسرع بالراية وتلك الرسالة إلى الملك، نبلغه ما فيها، وندعوه لما حلّ بنا من خير، فربما إذا صلح الحاكم صلحت الرعية.»
واستأنف مستدركا: «والآن هيا انزعي عن جسدك هذا اللباس الأسود كما سوف أنزع أنا -فما عاد يليق بنا هذا اللباس بعد أن تطهرت قلوبنا- لنرتدي الثياب البيضاء.»
أسرع الأدهم وكحيلة وأمسكا بفميها الثياب الذي كان معلقا بجانب الراية وناولاها لهما.
تبسمت كهيفة هذه المرة وأشارت إلى الأدهم بأن يولي نظره عنها حتى ترتدي ثيابها، فأسرع الأدهم وتوارى خلف جدار.
قالت كهيفة عندئذ: «لقد أحسنت ترويضه وتربيته يا زوجي الحبيب، فحسن خلقه وصفا ضميره.»
هنا صهلت الكحيلة وزفرت ضيقا، نظر إليها كهف في تبسم وقال: «وأنت يا الكحيلة، لقد أحسنتْ كهيفة تربيتك، فصفا ضميرك، والآن امض أنتِ الأخرى لأرتدي ثيابي.»
ولبسا اللباس الأبيض بالفعل، فلما هم بامتطاء الفرسين صهلا مجددا،
وحركا ذيلاهما بشدة، فأدركهما كهف وقال: «لا بأس بأن ترحبا بنا، هيا افعلا ما يحلو لكما.»
فناوله الأدهم المزمار الذي كان بحوزته، وناولته كحيلة الطبل، ثم دب بقدميه الأرض، وكذلك فعلت كحيلة.
وانتصبا الأدهم وكحيلة تلقاء بعضهما، أمسك كهف بالمزمار، وأمسكت كهيفة بالطبل، وبدأ الاحتفال بخروجهما فور أن نفخ كهف في المزمار وضربت كهيفة الطبل.
ودبدبا بأرجلهم على نغمات المزمار ودقات الطبل، ورقصا معا رقصة المربع.
وتبسموا جميعا، وتأججت في القلوب قبل أن ترتسم على الشفاه، وشعر كهف وكهيفة بأن سرور قلبيهما سوف يسع كل أهل القرية، وأن الطهارة والعفة سوف تدركاهم أيضا، الحيوان قبل الإنسان، وفجأة، تجهمت الوجوه، وتوغل الخوف بين الشفاه….. انقض جيش الحاكم عليهما.
وقدم الحاكم في وسط من بطانته على كهف وكهيفة الموثقين في عمودين خشبيين في السجن، والجلاد قائم على تعذيبهما، استوقف الحاكم الجلاد وقال: «ارحما نفسيكما من العذاب وأخبراني عن الكنز، أين خبأتماه؟»
تمتم كهف في البداية محاولا الكلام فتعثر لسانه ولم يستطع، فسكت، فآثر الحاكم الانتظار، فهو يعلم أن وقع السياط أخرس كل جوارحه.
فلما شعر كهف بأن لسانه يستطيع الكلام رغم أن جسده كله ينضح بالألم، دفع لسانه بكل قوته وقال وكأنه يفارق الحياة: «الكنز في الكهف، والآن بعد أن أجبتك، طمأني على الأدهم والكحيلة.»
قال الحاكم في حنق معرضا بالطبع عن سؤال كهف: «عيوني الذين شاهدوكما أخبروني بأنكما كنتما تمتطيان الحصانين ولم يكن معكما شيئا.»
تدخل الوزير هنا وقال: «أيها الحاكم، لم يكن معهما سوى بقجتين صغيرتين، ربما فيهما متاعهما، فما أهونهما أن يحتويا على كنز بقدر حجم خيمة، فكنزهما كحجم الخيمة كما وردت إلينا الأخبار.»
قال الحاكم في تفكر: إذن خبآ كنزهما لمّا علما بأمر القبض عليهم، ثم هربا لواذا بالكهف.
ثم استدرك خطفا وقال في حزم: «مَن الخائن الذي أخبركما أني أصدرت أمرا بالقبض عليكما؟ وأين خبأتما الكنز؟»
حاولت كهيفة الإجابة عن سؤال الحاكم فلم تستطع، أدركها كهف وأجاب بقوله: «أيها الملك، هذا كلام غريب، فنحن لا نعلم بأمر القبض علينا، والكنز في الكهف، والآن قد صدقتك، فأين الأدهم والكحيلة؟»
قال الحاكم: «إن كنت صادقا فلِِمَ فررتما ولذتما في هذا الكهف القاصي في الجبل؟»
قال كهف: «ليس كما تظن أيها الحاكم، إنما قصدناه لنبعد عن الناس فنناجي ضميرينا العاقين حتى ندفعهما للجوء إلى بيت الفطرة كما كانا، عندئذ تصفو روحانا فنتمكن من نشر الحب والخير في قريتك التي سادت فيها الكراهية والشر.»
سكت لحظة ثم استدرك: «في الرسالة ستجد ما يدلل على غايتنا، والراية هي مفتاحنا.»
قال الحاكم في دهشة: «أي رسالة؟ وأي راية؟»
هنا تكلم رئيس الشرطة وقال بلا اكتراث: «وجدنا بحوزتهم بردية فيها كلام فارغ أيها الحاكم، أما الراية فقد وقعت على الأرض ووطأتها أقدام خيلنا عمدا فتمزقت وباتت كالذر ذرتها الرياح.»
قال الحاكم في استدراك: «حتى خيلنا تكرهكما أيها التعيسان.»
ثم ما لبث أن طلب الرسالة بعدم اكتراث فأعطاه إياها، أمسك بها فحسب، ثم قال موجها كلامه هذه المرة لكهيفة وقال: «أخبرينا أنتِ يا كهيفة عن مكان الكنز.»
لم تجبه كهيفة.
قال كهف: «أيها الحاكم، إن كنت تريد كنوزا كثيرة وليس كنزا واحدا فتكهف.»
شعرت كهيفة بقدرتها على الكلام في تلك اللحظة رغم أن قدميها تغوصان في دماء ظهرها العاري: «أيها الحاكم، لقد وهبنا كل ما نملك من مال -وهو كثير- على فقراء هذه القرية وضعفائها قبل مغادرة القرية مباشرة.»
قال الحاكم عندئذ: «ها هي قد كذبتك امرأتك، فالكنز ليس في الكهف.»
قال كهف: «أنا ما كذبت قط، الكنز في الكهف.»
قالت كهيفة: «كهف لا يكذب، والآن، أين الأدهم والكحيلة أيها الملك؟»
نظر الحاكم إلى بطانته بعد أن تملك الغضب منه وأعمى فكره فقال وهو ينظر إلى قائد الشرطة وهو يضرب جبهته وكأنه أدرك شيئا: «لماذا يكرران دائما السؤال عن الحصانين يا رئيس الشرطة، لعلهما خبآ الكنز في بطونهما.»
ثم ما لبث أن سأل بشغف: «فأين هما؟»
قال رئيس الشرطة وهو يشير إلى كهف وكهيفة: «بعد أن فقد هذين الحقيرين وعيهما بعد ضربهما شاكسنا الحصانين فاضطررنا لقتلهما.»
عندئذ تأوه كهف وكهيفة، انبثق الألم هذه المرة من قلبيهما وليس من ظهريهما، قال كهف وهو يبكي: «كل شيء جميل يخبو في هذه القرية حتى يبيت كالذر تذروه الرياح.»
قال الوزير: «لأني أعلم أن كهف ساحر أسطوري فقد بقرت بطن الحصانين بعد قتلهما فلم نجد الكنز.»
قال قائد الشرطة: «أنا لا أستبعد ذلك أيها الوزير، فهذا الرجل استطاع أن يسحر الكهف فلا يقربنه أحد، فالحصانان كانا يبسطان أذرعهم بالوصيد، وينطلق من عيونهما شرر رهيب، والعشب الذي حولهما كان يتحول إلى حيات تسعى، لذلك، ما يقرب أحد جنودنا منهما إلا ولى فرارا وامتلأ قلبه رعبا.»
قال الحاكم: «ولذلك أشرت عليكم بانتظار خروجهما خشية أن يصيبنا السحر فيدب في الجيش كله، أما الآن فقد مات الفرسين، وخرج هذا الساحر، ولذلك أرى مداهمة الكهف.»
عندما سمع كهف وكهيفة ذلك تأكد كهف بأن سحره نجح في إبعاد الناس عنهما كي يتمكن هو وزوجه من التكهف بعيدا عن الناس.
قال الوزير في حزم: «لا أيها الحاكم، أنصحك بعدم مداهمة الكهف، إن كهف يدفعنا إليه للخلاص منا، فلا يزال السحر بداخله، وهذا الرجل بلغ من سحره أن قد يغير ماهية الأشياء، فربما تجد بداخله ديناصورات جائعة.»
قال رئيس الشرطة: «وربما أسكن الجن في الكهف، فإذا داهمناه أصابنا المس، فتخبطنا.»
ارتجف جسد الحاكم بعد أن اقتنع بكلام الوزير ورئيس الشرطة.
يئس الحاكم منهما، فقرر أن يستمر في تعذيبهما حتى يبوح أحدهما أو كلاهما عن الكنز، لكنه فضل أن يقرأ الرسالة على سمعيهما قبل المغادرة.
نزع الرباط عن البردة وبسط الرسالة، وفور أن قرأ العنوان : «رسالة الخلاص.»
توقف، وقال: «أي خلاص تقصد يا كهف؟»
ثم أشار إلى كهيفة وقال لها مثلما قال لكهف.
قالت كهيفة: «لقد فشت كل أصناف الشر بين أهل القرية، وبين جنودك، وباتت الأرض سوداء بسواد قلوبهم، فكان لابد من الخلاص، التكهف أيها الملك.»
قال كهف: «أنا وزوجتي تكهفنا من أجل أن نتمكن من إعداد تلك التي بيدك أيها الحاكم.»
لم يجد الحاكم بدا من التأمل في كلام كهف سوى قراءة الرسالة.
فقرأ: «من كهف وكهيفة إلى هذا العالم البائس، لتكن أنفسكم دائما قضاة على ضمائركم حتى تصفو نفوسكم، فيحل الحب وترفع الكراهية، ويحل العدل ويرفع الظلم، ويحل الضمير وترفع الأنا، واعلموا أن نور قلوبكم كنز البقاء، وظلمتها رمز الفناء.»
أخذ يفكر الحاكم في الرسالة، يحاول أن يفهم منها شيئا فلم يتمكن، وكان قاضي القضاة معهم، فسأله الحاكم: «ممكن تفسر لي ذلك؟»
قال قاضي القضاة في غرابة شديدة: «هذا الكلام أعجمي، أو مجرد خزعبلات وترهات غير مفهومة.»
قال رئيس الشرطة: أو ربما تعويذات وطلاسم سحرية.»
قال كهف عندئذ: «لم تكن سحرا يا رئيس الشرطة، وستفقهه أيها القاضي، ستفقهون الرسالة جميعا لو تكهفتم وحاكمتم ضمائركم.»
وبعد أن استمروا في عذابهم بضعة أيام لم يصرحا بشيء، عندئذ أشارت البطانة على الحاكم بأنه لا مفر من تصديقه، وأن الكنز في الكهف بالفعل، فلعل البقجتين كانا يحتويان على معادن نفيسة.
لم يكن بوسع الملك سوى إخراجهما ربما ينتزع الكنز منهما.
قال الحاكم لهما: «أطلقت سراحكما لتحضرا لي الكنز من الكهف، سيذهب معكما الجنود وينتظروكما في الخارج حتى تحضراه وتعودا به.»
قال كهف: «هو بالفعل في الكهف أيها الحاكم كما قلت، لكني قلت أيضا أنك لن تحصل عليه إلا إذا تكهفت بغرض نصب جلسة لضميرك.»
وذهب معهم الجنود بالفعل، ودخلا الكهف.
ومرت السنون ولم يخرجا من الكهف.
عندئذ غامر الحاكم وأمر جيشه باقتحام الكهف، فوجدوهما قد ماتا ولم يجدوا منهما سوى عظامهما.
فحملوا العظام وخرجوا من الكهف، فقابلهم حكيم القرية عندها وعرف ما يحملون فقال عندئذ لرئيس الجيش: «لقد صدق كهف وكهيفة، الكنز داخل الكهف، هم شاهدوه وتلمسوه بقلوبهم، وكذلك أنا من قبل.»
قال قائد الجيش: «أيها الجنود، اقبضوا على هذا الرجل الذي يظن نفسه حكيما، فإنه لص سرق كنز كهف وكهيفة.»
وأدخلوه السجن وساموه سوء العذاب حتى يدل على الكنز حتى مات، وكانت آخر كلمة قالها لهم: «النفس الضالة ترى الكنز في المادة، أما النفس المطمئنة فتجده في يقظة الضمير، وأنتم قوم مضللون لن تروه أبدا، ولن تنالوه، ستظلون تبحثون عنه ولن تجدوه لأنه مفقود، مفقود من قلوبكم.»