
أخبار بلا حدود- في قلب الجزائر، تقبع مدينة فرندة العريقة، التي كانت عبر العصور مركزًا حضاريًا وعلميًا وأمنيًا وتجارياً، شاهدة على مرور حضارات عظيمة، وموقعها الاستراتيجي منحها مكانة مرموقة بين مدن الوطن، غير أن هاته المدينة، التي منحت الكثير، تعيش اليوم واقعًا مؤلمًا يسيء إلى مكانتها وإلى تطلعات سكانها والمسافرين العابرين عبرها.
المفارقة المؤسفة أن مدينة بمثل هذا الإرث تفتقر إلى أبسط المرافق الحيوية، وعلى رأسها محطة نقل للمسافرين تليق بمكانتها، ما يوجد اليوم لا يتعدى قطعة أرض غير مهيّأة، تحتضن كل خطوط النقل بشكل عشوائي، حيث تتراص الحافلات وسيارات الأجرة دون أدنى شروط الراحة أو التنظيم، لا أماكن مخصصة للجلوس، ولا دورات مياه تحفظ كرامة المسافرين، ولا مواقف تقيهم حر الصيف أو برد الشتاء، لا أرضية معبّدة، ولا مظاهر تنم عن أن هذا الفضاء جزء من مدينة عظيمة مثل فرندة.
كل يوم، يضطر المسافرون، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً، إلى مواجهة مشاهد من المعاناة، وقوفًا تحت الشمس أو المطر، في انتظار وسيلة تقلهم إلى وجهاتهم، تتصاعد سحب الغبار في الصيف لتزيد المشهد اختناقًا، بينما تتحول الأرض إلى مستنقعات طينية مع أولى زخات الشتاء، مما يجعل التنقل تحديًا يوميًا حقيقيًا للسائقين والمسافرين على حد سواء، ناهيك عن الإنارة الغير كافية وإنعدام الأمن خاصة في الفترات الصباحية والمسائية، مما يزيد من مخاطر الإعتاداء والسرقة.
والأدهى والأمر، أن شبكة النقل الجماعي في فرندة، كمرفق عمومي حيوي، تعاني هي الأخرى من عدّة اختلالات عميقة، أبرزها تآكل البنية التحتية وغياب المداومة المسائية، حيث أنّ بعض الخطوط تشهد نقصًا حادًا في عدد الحافلات بسبب تحويل العديد منها إلى خدمة النقل المدرسي، مما خلق ندرة حقيقية في وسائل النقل خلال أوقات الذروة، هذه الظروف الصعبة فاقمت من معاناة المواطنين، الذين وجدوا أنفسهم بين رحمة الانتظار الطويل أو اللجوء إلى وسائل بديلة مكلفة وغير مريحة.
كما أنّه خلال السنوات الأخيرة إزداد عدد المسافرين المتوجهين نحو كل من تيارت ووهران، نظرًا للأعداد المرتفعة من الطلبة الجامعيين والعمال والمرضى الذين يقصدون هذه المدن إمّا للدراسة أو للعمل أو لتلقي العلاج، هذا النمو في حركة التنقل خلق ضغطًا كبيرًا على وسائل النقل المتوفرة، خاصة على الحافلات وسيارات الأجرة، التي لم تعد تلبي الطلب المتزايد بالشكل المطلوب، ومما زاد من تفاقم الوضع، الغياب شبه التام لخطوط نقل منتظمة نحو مدن كبرى أخرى مثل سعيدة وسيدي بلعباس، البيض، بالإضافة إلى انعدام الربط الكافي مع البلديات القريبة مثل توسنينة، مشرع الصفا، الرصفة والسوقر، هذا النقص الحاد في التغطية جعل من رحلة التنقل اليومي تحديًا إضافيًا يثقل كاهل المواطنين، ويدعو إلى ضرورة إعادة النظر في شبكة النقل وتعزيزها بما يتماشى مع الاحتياجات الحقيقية لسكان فرندة وزوارها.
ومما يزيد من مرارة الوضع، أن مشروع إنشاء محطة حديثة كان قد أُعلن عنه في السابق، بل وتم تخصيص قطعة أرض لهذا الغرض، إلا أن المشروع ظل رهين الأدراج لأسباب غامضة، وكأن فرندة قد سقطت من خارطة الأولويات التنموية.
فرندة اليوم أمام منعطف حاسم: فإمّا أن تستعيد حيويتها من خلال تزويدها بمحطة نقل برية من الصنف “ب ” على الأقل، محطة تحترم تاريخها وسكانها وزوارها، أو أن تبقى رهينة عزلة غير مبرّرة، تزداد معها الهوة بين حاضرها وتاريخها المشرق وتصبح مجرد قرية مهجورة على هامش الطريق الوطني.
لقد برهنت مدن مماثلة مثل السوقر وقصر الشلالة أن الاستثمار في مثل هذه المرافق ليس مجرد تحسين للخدمات، بل خطوة جبارة نحو دفع عجلة التنمية المحلية، فلماذا تبقى فرندة متأخرة عن هذا الركب ؟.
إن وجود محطة نقل عصرية بفرندة ليس ترفًا، بل ضرورة حضارية واقتصادية وإنسانية، محطة مجهزة بكل المرافق الأساسية من مطاعم ومحلات وأكشاك لبيع التذاكر وقاعات انتظار مريحة ومجهزة بأنظمة مراقبة لضمان أمن وسلامة المسافرين، فضاء حديث يجمع بين خطوط النقل القادمة من مختلف البلديات والولايات، يعزز التكامل بين المجالات الحضرية، وينشط الدورة الاقتصادية والسياحية، ويدفع نحو تنمية محلية حقيقية طال انتظارها.
يرى المراقبون المحليون أن تحقيق هذا المشروع قد يفتح آفاقًا جديدة أمام مدينة فرندة، من خلال تحفيز الاستثمارات وربط المحطة المستقبلية بمحطة القطار “عين الدرهم”، بما يسمح بتسهيل حركة التنقل بين المدن والبلديات، كما يُنتظر أن يساهم هذا الإنجاز في استقطاب المزيد من المسافرين والناقلين، مما يحرّك المجال التجاري والاجتماعي في المدينة.
في انتظار تفعيل مشروع إنشاء محطة نقل عصرية، تواصل فرندة الاعتماد على ترتيبات مؤقتة لا تواكب تطلعات سكانها، ويبقى الأمل معقودًا على أن يتم تجاوز العراقيل الإدارية والمالية في أقرب الآجال، بما يضمن تحقيق هذا المرفق الحيوي الذي تتطلع إليه المدينة منذ سنوات،
ففرندة مدينة الحضارات، أيقونة التاريخ المجيد، لا تستحق هذا التهميش، تستحق أن تتنفس مجدها من جديد، فهل من مستجيب؟ أم في النسخة القادمة من التاريخ ستجد من يستجيب.
مستشفى إبن سينا بفرندة… بين واقع الخدمات الصحية وتطلعات المواطنين – مقال محمد سبع
إذا كنت تعتقد بأنه قد تم نسخ عملك بطريقة تشكل انتهاكاً لحقوق التأليف والنشر، يرجى إتصال بنا عبر نموذج حقوق النشر.